تظاهرة للدفاع عن حرية التعبير في العراق - رويترز
4-06-2022, 15:14

 

 

تتواصل منذ سنوات خروقات حرية التعبير على امتداد العراق، بعد فسحة الحريات النسبية التي أتاحها الخلاصُ من نظام قمعي استبدادي، وكانت – في الحقيقة – واحدةً من نتاجات هشاشة الدولة الناشئة بعد العام 2003، ولم يمأسسها ويصنها نظام واضح وبنية تشريعية متماسكة.


غير أن الأشهر الأخيرة، شهدت تصاعدًا واتساعًا في هذا المجال، على نحو يثير المزيد من القلق على مستقبل البلاد وحقوق مواطناتها ومواطنيها. ويأتي هذا بعد أن واجهت البلادُ وسلطاتها العامة وتخطت عددًا من التحديات الكبيرة، وفي صدارتها الإرهاب. وفي ارتكاب هذه الخروقات، عادةً ما تلجأ السلطات المعنية وشاغلو مناصب عليا في الدولة، فضلاً عن ساسة في أحزاب مُشاركة في السلطة، إلى استعمال مصطلحات من قبيل "الإساءة لمؤسسات الدولة"، و"إهانة القضاء"، و"التطاول على الرموز"، في وصف ما يعدّونه سلوكًا إجراميًا، يستدعي إجراءات عقابية بحق المواطنات والمواطنين الذين يطلقون هذه الآراء، وهي آراء تقع في مجال حرية التعبير، التي كفلها الدستورُ العراقي واشترط وجودَها في مواد عدة، بوصفها خصيصة أساسية وتعريفية للنظام السياسي العراقي. يكفي، هنا، التذكير بأن أحد المبادئ الأساسية للدستور، غير القابلة للتعديل، هو منع تشريع قوانين تتعارض مع الديمقراطية، بما تفضي إليه هذه القوانين من إجراءات رسمية. وحريةُ التعبير هي عماد الديمقراطية، وهي أمّ الحريات على الإطلاق، وهي تتضمن إمكانية التعبير من دون خوف العقاب على هذا التعبير أو محتواه.


وفي ظل النقص في مأسسة الدولة العراقية وتحديث مدونتها التشريعية، ومع ضعف تقاليد سلطات الدولة وأجهزتها في استيعاب الممارسة الديمقراطية، تقضي صيانةُ المسار الديمقراطي للعراق اليوم جعلَ حرية التعبير والدفاع عنها أولوية كبرى، ترتبط حمايتُها بحماية المؤسسات العامة وإطارها السياسي من الانزلاق التدريجي نحو تقاليد الاستبداد والدكتاتورية وتكميم الأفواه التي عانى منها العراق طويلاً.


من هنا، نعتقد أن السلطات العامة وموظفيها جميعًا، مطالبة ومطالبون بأن يكون سلوكهم في هذا المجال منسجمًا مع الدستور. وبضمن ذلك الامتناع عن اللجوء إلى إجراءات تعسفية، كالفصل من الوظيفة، وإصدار أوامر اعتقال، واتهام أصحاب الآراء المخالفة بالعمالة والتجسس وتنظيم المؤامرات ضد الدولة والمجتمع، وغير ذلك من أنواع التحريض، التي بتنا نألف صدورها من مسؤولين في الدولة وساسة وبرلمانيين.


في هذا السياق، نجد لزامًا علينا إعادة التأكيد على ثوابت ديمقراطية، لا يمكن لأي نظام سياسي يصف نفسه بأنه ديمقراطي أن يتجاهلها، من دون أن يصبح مستبدًا ومتغوّلًا على حقوق مواطناته ومواطنيه:


1 - إن مؤسسات الدولة العامة، بما فيها القضاء، وظيفتُها خدمةُ المواطن، وهي ليست مقدّسة، ولا محصّنة من النقد.

2 - إن نقد المؤسسات العامة، بما فيها القضاء، ونقد القائمين عليها، هو حق أساسي، ينبغي أن يصونه القانون والمجال العام الديمقراطي، ولا يمكن أن يدخل - بأي حال من الأحوال - في باب التشهير، طالما أنه ينتقد هذه المؤسسات والقائمين عليها بوصفهم موظفين عموميين، ولا يتناول حياتهم الشخصية.

3 – إن القانون العراقي نفسه لا يبيح الملاحقة القانونية لمواطن عراقي أسند، علانية، واقعة معينة إلى موظف مكلّف بخدمة عامة، ذات صلة بوظيفته، وأقام الدليل على ما أسنده. ومن ثم، الصحيح ديموقراطيًا، هو أن يرفع المتضررون من النقد من الموظفين العموميين، دعوى قضائية، لتقرير ما إذا كان ما أُسند إليهم صحيحًا أم لا، مع حماية حق الدفاع القانوني للمتهم. أما ما يجري من إصدار أوامر اعتقال، أو المطالبة به، أو معاقبة صاحب الرأي مؤسساتيًا، أو تهديده وترويعه، فإن هذه كلها تقع ضمن الأفعال الاستبدادية والتعسفية.

4 - لا يحق للمؤسسات العامة، بما فيها القضاء، أن تحكم على نوايا المواطنين، وتتخذ إجراءات على أساس فهمها وتأويلها لهذه النوايا. يقود هذا السلوك المتكرر إلى تحويل هذه المؤسسات إلى ما يشبه محاكمَ تفتيش لضمائر العراقيين، وهو ما يضر بشرعيتها القانونية والأخلاقية، ويخرجها من إطار اختصاصها من حيث هي مؤسسات خدمة عامة.

5 - لا يمكن الاستمرار باعتماد مواد قانونية شرّعها نظام شمولي يدينه الجميع، وكلفت سياساته القمعية البلاد ما لا يُعد من الضحايا، وهي مواد بطبيعتها مخالفة لمبدأ حرية التعبير عن الرأي، وتُستعمَل لتهديد أصحاب الرأي وملاحقتهم. ونجد لزامًا على السلطتين التنفيذية والتشريعية تعديل هذه المواد بما ينسجم مع المادة 38 من الدستور العراقي والمبادئ العالمية لحقوق الإنسان، وحق حرية التعبير بالذات.

6 - لا بد من مواجهة التضييق المنهجي على حق العراقيات والعراقيين في التعبير عن آرائهم، الذي تمارسه جهات سياسية ورسمية، وينخرط في هذا أشخاص يتولون مناصبَ عليا في سلطات الدولة العامة ومؤسساتها. وعاملون وعاملات في مجال الإعلام، ومؤثرون ومؤثرات في وسائل التواصل الاجتماعي. ويجري ذلك باستعمال مفاهيم من قبيل "الحصانة" و"القداسة"، تُضفى على مؤسسات وأشخاص، رسميين أو غير رسميين، لمنع نقد سلطات الدولة العامة ومؤسساتها، أو القائمين عليها، أو الشخصيات العامة.

7 - في أمثلة كثيرة ومتواصلة، اتخذت طريقة دفاع هذه المؤسسات عن نفسها أشكالًا صريحة من التعسف والاستبداد، عبر الملاحقة القضائية، وتهديد أصحاب الآراء الناقدة، واعتقالهم، وإلحاق الضرر بوظائفهم ومصادر عيشهم، وما سوى ذلك من أوجه التعسف، في بلد فيه الكثير من السلاح السائب والمسيّس، الذي فشلت الدولة في إخضاعه لسيطرتها. ويعني هذا الأسلوب وضع حياة المنتقدين في خطر وإجبارهم (وإجبار الآلاف سواهم) على الصمت.

من دون أن تلتزم السلطات العامة، بما فيها القضاء، بهذه الثوابت، ستوضع البلاد في مسار سلطوي يقود إلى عودة الدكتاتورية ومآسيها الكثيرة، ولكن في إطار جديد: سلطة عاجزة عن تقديم ما ينبغي لها تقديمه لمواطناتها ومواطنيها، وقمعها وشراستها يطولان هؤلاء المواطنين عند نقدهم لها أو احتجاجهم عليها.