سليم سوزه
13-02-2023, 17:30

 

 


سليم سوزه


لا ريب أن نقد محتويات ما تقدمه مواقع التواصل الاجتماعي ممارسة ديمقراطية اعتيادية، ولكل منا الحق في نقد ما لا يعجبه، لكن المشكلة عندما تدخل السلطة على الخط لتضع معاييرها هي في تحديد ما الجيد من السيئ في تلك المحتويات. تتحول الممارسة هنا إلى سياسة تفرض فيها السلطة ايديولوجيتها وذوقها وتصوّراتها على الناس أجمع من خلال نظامها القضائي وأجهزتها القمعية.


استخدم النازيون الألمان صورة المرأة الريفية المحافظة ذات الوشاح المُغَطِّي للرأس وإلى جنبها أربعة أطفال ذكور أصحّاء البدن كرمز للعنصر الألماني المحافظ وبروباغندا سياسية للقضاء على اليهود والغجر والمعوقين بوصفهم عقبة أمام ألمانيا العظمى. جُرِّمَت فيما بعد حتى الفنون التي لا تستقيم مع فكرة النازيين عن المجتمع السليم ومُنِعَت كلها بوصفها "فنوناً منحطة".


استخدم شيوعيو تشيكوسلوفاكيا صورة الشاب القوي جسمانياً والذائب بولائه في مبادئ الطليعة المؤمنة بشعارات التحرر من الامبريالية الرأسمالية الغربية ونبذ كل مظهر "شاذ" ينتقص من الثقافة المحلية. فيما بعد أيضاً، تحوّلت هذه الممارسة إلى سعار سلطوي تنال من أي معارضة سياسية، فما كان من المفكر والفيلسوف التشيكي ڤاكلاڤ هاڤل إلّا أن يقف ضد هذه الحملة ويقود معارضة شعبية ناعمة ومخملية من خلال حث الشباب على ارتداء قمصان معينة بشعارات معينة، ناهيك عن التحريض نحو موسيقى معينة وقصّات شعر محددة كانت السلطة الشيوعية تعتبرها منافية للذوق العام آنئذ. أسقط هاڤل حكم الشيوعيين من خلال هذه المعارضة، وأصبح رئيساً لوزراء جمهورية التشيك فيما بعد.


لنتذكّر أيضاً حملة وزير الداخلية الأسبق إبان الثمانينيات، سمير الشيخلي، وهو يشكّل فرقة أمنية خاصة لملاحقة شباب ومراهقي "الهيبيز" و "البوردو" وموديلات الملبس الغربية التي تسرّبت الى العراق لحظة انشغال البلد في حرب الدفاع عن "البوابة الشرقية للوطن العربي" أمام "الريح الصفراء الآتية من قم وطهران"! كانت هذه الفرقة الأمنية تمزّق ملابس أولئك الشباب بالموس وتعتقلهم لمدة معينة في مخافر الشرطة كي لا يرتدوا مثل هذه الملابس المخلة بالذوق العام والأخلاق العراقية الأصيلة. الشياب من عمري يتذكرون هذا جيداً.


ثمة أمثلة كثيرة من التاريخ كيف أن الأنظمة الدكتاتورية تبدأ دكتاتوريتها من هذه التفاصيل الصغيرة والتافهة.


معايير من قبيل الذوق العام، المحتوى الهابط، الاخلاق العامة، وغيرها الكثير من العبارات هي مفاهيم فضفاضة وعائمة ليس لها تعريف محدد طالما لا يستقيم كل الناس على ذوقٍ واحد. هذه حجج تستخدمها الأنظمة الدكتاتورية للقضاء على معارضيها. كتاب مجلس القضاء الأعلى الأخير يشير بوضوح أن هذه الحملة ستطال أيضاً كل مَن يمس ويحرّض ضد أجهزة الدولة ومؤسساتها. بمعنى حتى منشوري هذا قد يصبح تحريضاً ضد الدولة وأجهزتها.


السلطة هنا ليست مهتمة في الحفاظ على "الذوق العام" بل تريد فقط أن ترى نفسها في سلوك الفرد وتصرفاته ومظهره. ميشيل فوكو يقول أن قوة السلطة ليست في اجهزتها الايديولوجية أو القمعية فقط، قوتها في انعكاسها وتجلّيها في ذات الفرد وسلوكياته. بمعنى، أن "الذات" هنا مساحة وأثر للسلطة فحسب، متى ارتدت هذه السلطة بزةً خاكية أو عمامةً، ارتدتها هذه "الذات" أيضاً من دون سؤال، وإلّا ستتحوّل إلى عنصر "شاذ" مخل بالذوق العام.