المرصد العراقي لحقوق الإنسان
1-10-2025, 12:48


1 تشرين الأول 2025


في مثل هذه الأيام قبل ست سنوات، كانت شوارع بغداد والمدن الجنوبية تضج بأصوات آلاف الشبان. خرجوا يحملون الأعلام العراقية ويرفعون لافتات بسيطة، يرددون شعارات عن الكرامة والعدالة والحق في وطن لا ينهشه الفساد. كانوا يحلمون بحياة عادية، بفرصة عمل، ببيت صغير، وبمستقبل يستحق أن يُعاش. لكن ما واجهوه كان الرصاص والدخان والدم.


في الأول من أكتوبر 2019، اندلعت احتجاجات تشرين. لم تكن مجرد تظاهرات عابرة، بل كانت انفجار غضب شعبي مكبوت منذ سنوات. عاطلون عن العمل، طلاب جامعات، آباء وأمهات، خرجوا بوجوه مكشوفة يطالبون بإصلاح بلدهم. كان شعارهم بسيطًا: "نريد وطن". ومع ذلك، جاء الرد سريعاً ووحشياً. رصاص حي صوّب على صدور الشباب، قنابل دخانية اخترقت جماجم المتظاهرين، وقنابل صوتية مزقت الساحات. في أيام قليلة، تحولت ساحات التحرير والنجف وكربلاء والناصرية إلى مسارح موت جماعي.


قُتل أكثر من ستمئة متظاهر، وأصيب الآلاف بجروح، بعضها ترك ندوباً لا تُشفى. كثيرون اختفوا قسراً، خطفوا من الشوارع أو من بيوتهم، ولم يظهر أثر لهم حتى اليوم. آباء وأمهات يعيشون على أمل واهٍ بأن يعود أبناؤهم، لكن الدولة لم تقدّم لهم سوى الصمت.


لم يكن العنف مقتصراً على قوات الأمن النظامية، بل شاركت فيه فصائل مسلحة نافذة، نفذت اغتيالات ضد ناشطين بارزين. في كربلاء، سقط إيهاب الوزني غيلة برصاص مسلحين. في العمارة، اغتيل أمجد الدهامات. وفي بغداد والناصرية والبصرة، تكررت محاولات اغتيال لناشطين مثل لوديا ريمون وغيرها. كانت الرسالة واضحة: إسكات أي صوت يطالب بالحرية.


ورغم كل هذه الجرائم، بقيت أبواب العدالة مغلقة. الحكومات التي تعاقبت بعد تشرين، بدءًا من استقالة حكومة عادل عبد المهدي في نوفمبر 2019، أطلقت وعودًا بالتحقيق والمحاسبة. تشكلت لجان رسمية عديدة، لكن دون جدوى. لم يُقدَّم أي ضابط رفيع أو مسؤول سياسي إلى المحاكمة. الإفلات من العقاب أصبح هو القانون غير المكتوب.


إن ما جرى في تشرين لم يكن مجرد قمع محلي عابر، بل انتهاك صارخ للقانون الدولي. فالعراق صادق منذ عام 1971 على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي يكفل الحق في الحياة، ويحظر التعذيب، ويضمن حرية التظاهر السلمي. كما أن الدستور العراقي نفسه، في المادة 38، يقر بحق المواطنين في التعبير والتجمع. لكن كل هذه النصوص تحولت إلى حبر على ورق أمام رصاص القناصة.


اليوم، وبعد مرور ست سنوات، ما زالت عائلات الضحايا تنتظر كلمة حق. يريدون أن يعرفوا من قتل أبناءهم، من أعطى الأوامر، ولماذا تُرك القتلة أحراراً. يريدون أن يشعروا أن دماء أبنائهم لم تذهب هدراً. لكن الدولة لم تقدّم لهم سوى الصمت والتجاهل، بينما تستمر الفصائل المسلحة في ممارسة نفوذها بلا محاسبة.


العدالة ليست ترفاً ولا مطلباً سياسياً فقط، بل هي حاجة إنسانية وأخلاقية. دونها، لن يهدأ جرح تشرين، ولن تتوقف دوامة العنف. فالإفلات من العقاب يعني أن الجرائم يمكن أن تتكرر، وأن دماء جديدة قد تُراق في أي لحظة.


إن جبر الضرر لعائلات الضحايا هو الخطوة الأولى نحو استعادة الثقة. هؤلاء لم يخسروا أحباءهم فقط، بل خسروا استقرار حياتهم كلها. كثير من الأطفال باتوا أيتاماً، كثير من الأمهات يعشن الحداد الأبدي، وكثير من الأسر تحتاج إلى دعم نفسي واجتماعي عاجل.


المرصد العراقي لحقوق الإنسان، ومنذ الأيام الأولى لتشرين، ظل يوثق الانتهاكات ويدعو إلى تحقيقات مستقلة وشفافة. واليوم، ونحن في الذكرى السادسة، نؤكد أن الوقت قد حان لوضع حد لسياسة التسويف. ما لم تكن هناك إرادة سياسية حقيقية لمحاسبة المتورطين، ستبقى العدالة بعيدة المنال.


يرى المرصد العراقي لحقوق الإنسان أن ما جرى في احتجاجات تشرين لم يكن مجرد تجاوزات فردية، بل سلسلة انتهاكات جسيمة تم ارتكابها بشكل منظم، ولم يُقابل ذلك بأي إجراءات جدية للمساءلة. إن الإفلات من العقاب لم يرسخ فقط شعور الضحايا وعوائلهم بالخذلان، بل بعث برسالة خطيرة مفادها أن استخدام العنف ضد المتظاهرين السلميين يمكن أن يمر بلا محاسبة.

 

لهذا، يشدد المرصد على أن الطريق نحو العدالة يبدأ من فتح تحقيقات مستقلة وشفافة، بإشراف قضائي حقيقي وضمانات دولية، تكشف الملابسات الكاملة لعمليات القتل والاختفاء والاغتيال التي استهدفت المتظاهرين والناشطين. ولا يمكن لهذه التحقيقات أن تكون شكلية أو سياسية الطابع، بل يجب أن تفضي إلى محاسبة فعلية لكل المتورطين، بغض النظر عن مناصبهم أو مواقعهم في أجهزة الدولة أو الجماعات المسلحة.


كما يؤكد المرصد أن التعويضات التي قُدمت لعوائل بعض الشهداء لا تعني إنصافاً حقيقياً. التعويض العادل ينبغي أن يكون شاملاً، يشمل الرعاية الصحية والنفسية للمصابين والناجين، وإجراءات جادة لإعادة دمجهم في المجتمع، مع ضمان عدم تكرار ما حدث. فالتعويض لا يمكن أن يكون بديلاً عن العدالة، بل مكملاً لها.


ومن دون ضمان حرية التظاهر السلمي في المستقبل، ستبقى حقوق العراقيين مهددة. الاحتجاج هو وسيلة أساسية للتعبير عن الرأي، وكبحه أو التضييق عليه يعني انتهاكاً للدستور العراقي والاتفاقيات الدولية التي صادق عليها العراق. لذلك، يجب أن تتخذ السلطات إجراءات واضحة تحمي هذا الحق وتمنع أي استهداف جديد للمتظاهرين.


وإلى جانب ذلك، يرى المرصد أن إشراك المجتمع المدني في مراقبة الإصلاحات السياسية والتشريعية هو ضرورة لا يمكن تجاهلها. فالاحتجاجات كانت صرخة شعبية ضد تهميش المواطن، وأي عملية إصلاح تستثني المجتمع المدني ستظل ناقصة وفاقدة للثقة.


وأخيراً، يوجّه المرصد دعوة صريحة إلى الحكومة العراقية من أجل تحقيق العدالة. فالعدالة ليست رفاهية، بل أداة أساسية لكسر حلقة الإفلات من العقاب وضمان عدم تكرار ما جرى.