قال المرصد العراقي لحقوق الإنسان (IOHR) إن مؤشرات الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحافيين في العراق ما تزال مرتفعة بشكل مقلق، وأن الاعتداءات المنظمة على العاملين في المجال الإعلامي، سواء عبر القتل أو التهديد أو التعذيب أو الاحتجاز التعسفي أو التضييق المهني، لم تُقابل حتى الآن بإجراءات فعالة أو شفافة، رغم الالتزامات الدستورية والقانونية والدولية التي تفرض على الدولة حماية حرية الصحافة وضمان سلامة الصحافيين.
وأكد المرصد أن غياب العدالة في هذه القضايا يهدد مبدأ سيادة القانون، ويمس الحق في المعرفة وحرية التعبير، ويُضعف ثقة المجتمع بمؤسسات الدولة، ويشكل خطراً مباشراً على البيئة الديمقراطية في العراق.
يحيي العراق هذا العام اليوم العالمي لإنهاء الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحافيين وسط واقع مقلق، حيث ما تزال حرية الصحافة في البلاد محاصرة ببيئة أمنية وسياسية مشحونة، وبمنظومة عقابية غير فاعلة، وبتراجع ملحوظ في آليات الحماية والمساءلة، ما جعل العمل الصحافي في العراق من بين الأكثر خطورة في العالم.
وبعد أكثر من عشرين عاماً على سقوط النظام الديكتاتوري، لا يزال الصحافي العراقي يعيش في مساحة رمادية بين النصوص القانونية التي تَعِد بالحماية، وواقع ميداني يُهدّد حياته وسلامته، ويجعل كل خطوة محفوفة بالخطر.
ورغم أن الدستور العراقي في المادة (38) يكفل حرية الصحافة، وأن العراق طرف في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، إضافة لالتزامات مكرسة في قرارات أممية مثل قرار مجلس الأمن 1738 بشأن حماية الصحافيين في مناطق النزاع، فإن هذه الضمانات تحوّلت في الواقع إلى نصوص غير مكتملة التطبيق. فمرتكبو الانتهاكات بحق الصحافيين غالباً ما يفلتون من العقاب، وتغيب العدالة بسبب الضغوط السياسية والأمنية والتدخلات في ملف التحقيقات.
منذ عام 2003 وحتى اليوم، قُتل ما لا يقل عن 475 صحافياً وعاملاً في الإعلام في العراق، وفق توثيقات منظمات وطنية ودولية، بينما لم تُحاسَب الجهات المتورطة إلا في حالات محدودة جداً، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. هذا الرقم لا يمثل فقط حصيلة بشرية ثقيلة، بل يعكس بيئة تعمل ضد الحقيقة وتسمح باستمرار دائرة الخوف والصمت والرقابة الذاتية، ويجعل من الإفلات من العقاب سياسة غير معلنة تتحكم بمصير حرية التعبير.
وتُعد ملفات الصحافيين الذين قُتلوا خلال السنوات الماضية شاهداً مؤلماً على عجز الدولة عن الوصول إلى الجناة. ففي شباط 2006 قُتلت الصحافية أطوار بهجت في سامراء أثناء تغطيتها تفجير مرقد الإمامين العسكريين. كانت صوتاً مهنياً رصيناً في لحظة انقسام خطيرة، واعتبر كثيرون اغتيالها جريمةً أرادت إسكات خط صحافي معتدل رافض لتجييش الطوائف. ورغم الضجة الواسعة التي أعقبت مقتلها، لم يحصل الرأي العام حتى اليوم على نتائج تحقيقات شفافة.
وفي أيار 2010، اختُطف الصحافي الكردي سردشت عثمان من أمام جامعته في أربيل، وبعد أيام عُثر على جثته في الموصل وعليها آثار تعذيب. كان شاباً كتب عن الفساد والنفوذ السياسي، وما زالت عائلته حتى الآن تنتظر بيان حقيقة لملابسات الجريمة. لم تُحاسب أي جهة، وبقيت الحادثة رمزاً لمحدودية قدرة العدالة حين تكون السياسة طرفاً في مسرح الجريمة.
وفي أيلول 2011، اغتيل الصحافي والناشط هادي المهدي داخل منزله ببغداد بعد تلقيه تهديدات مرتبطة بنشاطه الإعلامي. كان هادي شخصية معروفة بين ناشطي الحراك المدني وصوته حاضراً في المساحات العامة، وكتب علناً قبل اغتياله عن الخطر الذي يواجهه. ورغم المطالبات الواسعة، انتهت القضية إلى صمت طويل.
وفي كانون الثاني 2020، قُتل الصحافي أحمد عبد الصمد والمصور صفاء غالي في البصرة أثناء تغطية الاحتجاجات الشعبية. وثّقت الكاميرات اللحظة، وسُمعت أصوات الرصاص الذي استهدفهما، لكن التحقيقات لم تصل إلى نتائج معلنة، ليبقى السؤال معلقاً لدى أسرتهما ولدى الشارع العراقي: من قتل الصحافة في البصرة؟
ولا تقتصر الانتهاكات على الماضي القريب؛ فالتهديد ما يزال قائماً. ففي احتجاجات بغداد عام 2023، قال صحافي للمرصد: "رفعت بطاقة التعريف الصحافية وصرخت إنني صحافي، لكنهم كانوا يدركون ذلك تماماً ويواصلون الضرب. كان العقاب لأنني كنت أرى وأوثق".
وقالت صحافية تحقيقات إنها "تلقت ثلاثة تهديدات في عام واحد بسبب ملفات فساد تعمل عليها" مضيفة: "نصحني ضابط بألا أقدم شكوى، قال لي: لا نستطيع توفير الحماية لكِ".
وروى مصور مستقل أنه احتُجز لساعات وتم سحب كاميرته بالقوة، قائلاً: "كانوا ينظرون للكاميرا كما لو أنها سلاح. التصوير صار تُهمة".
ويشير المرصد إلى أن هذه الشهادات ليست معزولة، بل تؤكد استمرار بيئة الخطر وتُظهر أن أدوات ترهيب الصحافيين لم تتغير كثيراً عبر الزمن، بل أصبحت أكثر صمتاً وأكثر انتظاماً. فالتحقيقات غالباً تبدأ ببيانات مكثفة، ثم تتباطأ، ثم تختفي، لتتحول الملفات إلى سجلات مغلقة أو مفتوحة لم تُحسم، ويظل مبدأ "ضد مجهول" عنواناً مراً للكثير من الجرائم.
ويحدث هذا في وقت تحذر فيه الأمم المتحدة واليونسكو من خطورة استمرار انهيار منظومة المساءلة. فقد أعلنت اليونسكو في بيانها الأخير استعدادها لإطلاق إطار تعاون مع القضاء العراقي في 2025 لتعزيز حماية حرية التعبير، مؤكدة أن أكثر من 500 صحافي قتلوا منذ 2003، وأن نسبة الإفلات من العقاب تتجاوز 98%.
ودعت المنظمة الحكومية العراقية إلى إعادة تفعيل الوحدة التحقيقية الخاصة بجرائم الصحافيين والتي توقفت دون توضيحات، وإلى إعلان نتائج التحقيقات للشارع والرأي العام الدولي.
قال رئيس المرصد العراقي لحقوق الإنسان مصطفى سعدون: "لا يمكن لأي دولة أن تدّعي احترام سيادة القانون بينما يُقتل الصحافيون دون محاسبة. صمت الدولة لا يحمي الاستقرار، بل يحمي الجناة. لدينا التزام قانوني وأخلاقي بأن نعيد فتح هذه الملفات، وأن نضمن ألا يكون القلم سبباً في قتل صاحبه".
قال أيضاً: "المشكلة ليست في القوانين، بل في الإرادة والآليات. المطلوب وحدات تحقيق مستقلة تحظى بسلطة حقيقية، وبرنامج حماية للشهود، وإجراءات شفافة تُعلن للرأي العام".
قال المستشار الإعلامي للمرصد وسام الملا: "ثقة الجمهور في مؤسسات الدولة تتآكل عندما يُقتل الصحافي ولا يظهر القاتل. الإفلات من العقاب ليس جريمة ضد الصحافي فقط، بل ضد المجتمع وحقه في معرفة الحقيقة."
قال الصحافي العراقي زياد العجيلي: "كل يوم يمر من دون عدالة هو رسالة خوف للصحافيين ورسالة طمأنة للجناة".
قال الصحافي عمر الجفال: "عندما يُقتل الصحافي، لا تخسر عائلته فقط، بل يخسر المجتمع ذاكرته وصوته."
قالت الصحافية سجد الجبوري: "التهديد لوحده أصبح كافياً لإسكات صحافيين كثر. المشكلة ليست فقط في القتل، بل في الخوف الذي يفرضه الإفلات من العقاب".
إن استمرار الوضع الحالي يهدد مستقبل الصحافة في العراق، ويُضعف قدرة المجتمع على الرقابة والمساءلة، ويعزز ثقافة الخوف والصمت والفساد. حماية الصحافيين اليوم ليست خياراً سياسياً بل ضرورة وطنية لحماية مسار الإصلاح واستقرار الدولة.
ويؤكد المرصد العراقي لحقوق الإنسان أن الدولة العراقية مطالبة بإعادة فتح ملفات الاغتيالات كافة دون استثناء، وضمان مسار قضائي مستقل وشفاف، وتوفير حماية للشهود والمتضررين، والإعلان الدوري عن تقدم التحقيقات، وتفعيل وحدة التحقيق الخاصة بجرائم الصحافيين، والتعاون مع آليات الأمم المتحدة واليونسكو ومنظمات المجتمع المدني المختصة.
في العراق اليوم، لا تختبر حرية الصحافة في غرف الأخبار فقط، بل في المحاكم والمراكز الأمنية ومكاتب القادة وصمت المؤسسات. والعدالة المؤجلة في جرائم الصحافيين ليست مجرد تقصير إداري، بل تهديد حقيقي لركائز الدولة، ورسالة خطيرة بأن الحقيقة لا تزال هدفاً مشروعاً للعنف.
قال المرصد العراقي لحقوق الإنسان، إ حماية الصحافيين وحماية الحقيقة مترابطتان. من يقتل الصحافي، يقتل قدرة المجتمع على معرفة ما يجري. ومن يسمح له بالإفلات من العقاب، يشارك في الجريمة.